الهجرة غير الشرعية في تونس… مغامرة محفوفة بالمخاطر والخسائر أكبر من الأرباح

إعداد شادي زريبي

برزت ظاهرة الهجرة غير الشرعية في بلادنا، خلال السنوات الأخيرة، بشكل مُلفت للانتباه، وتصدرت في كثير من الأحيان عناوين الأخبار التي وجهت بوصلتها لهذه الظاهرة، تاركة العديد من المشاكل الأخرى التي نتخبط فيها كل يوم. “الحرقة” بالمفهوم الدارج تبقى من المشكلات التي تعاني منها الأُسر التونسية، وتعمل الدولة على إيجاد حلول جذرية لها لوقف الخسائر البشرية التي ترتفع من يوم إلى آخر وأيضا لمحاولة تلميع صورة تونس في الخارج بعد أن صارت ضبابية وبلا ملامح نتيجة تسليط الضوء من قبل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي عليها، وكأن تونس فقط هي التي تعيش هذا الخطر، فقط مجرد طرح من زاوية أخرى قد يعيد للمسألة البعض من مصداقيتها وإعادة توزيع الأوراق من جديد.

همزة وصل – بدأ الحديث عن ظاهرة الهجرة غير الشرعية منذ نهاية التسعينات قد بدأت تشكل تهديدا خطيرا على دول المصدر، وعلى دول العبور، وعلى دول الاستقبال بشكل يؤثر وينعكس على سياسات هذه الدول نتيجة لفقدان القوة البشرية لبلدان المصدر بالهجرة أو الموت، ونتيجة لحدوث عدم الاستقرار، وتوتر العلاقات السياسية بين دول العبور ودول المصدر ودول الاستقبال، وتحمل التكاليف الأمنية الباهظة، وما يلفت الانتباه إلي هذه المشكلة في زمننا المعاصر هو ارتفاع أعداد المهاجرين غير الشرعيين بشكل كبير جدا، مما يهدد البلاد التونسية برمتها، وكما تطور نمط الهجرة غير الشرعية المعاصرة من هجرة فئة الذكور القادرين على العمل إلى هجرة فئة النساء، والأطفال.

عندما نتناول موضوعا ذا أهمية كظاهرة الهجرة غير الشرعية، فلابد من التوقف عند العديد من النقاط البارزة والخفية، فالمسألة لا تتعلق بغرق قارب ما قرب سواحل معينة، أو مجرد رقم تتداوله مختلف وسائل الإعلام لعدد الغرقى أو المفقودين، المسألة أعمق من ذلك وتتعلق بالنظر في الأسباب التي تجعل من الشباب يختارون نهج المغامرة غير مضمونة النتائج، ويقررون دخول المجهول وركوب الأمواج، وهم يدركون جيدا أن هذه الرحلة قد تكون الأخيرة في حياتهم، وبالتالي الانتهاء بهم إلى الموت المؤكد، ولكن ما هي الأمور التي تدفع بهؤلاء إلى اختيار هذا الطريق الوعر والإصرار على الارتماء في أحضان “المقامرة المميتة”؟ ولماذا اختار هؤلاء المقامرة بحياتهم وسط ضبابية المسالك والطرق؟ وماذا يدور في ذهن “الحارق” عندما يركب الزورق ويترك أهله وأصدقاءه دون أن يدرك العواقب، ولو للحظات؟ وهل أن الوضع أصبح في تونس خطيرا جدا كي يرمي الشباب أنفسهم في البحر دون تفكير أو قراءة لما يمكن أن يحدث؟ وهل انسدت، حقيقة، الآفاق كي يذهب المرء بقدميه وعن طواعية إلى الموت؟

العاملان الاقتصادي والأمني

يكاد يكون العاملان، الاقتصادي والأمني، هما أبرز العوامل، التي تدفع الناس للهجرة من بلدانهم الأصلية بشكل عام، ولا تعد تونس استثناء في ذلك، بل إنها قد تتوافر بها، أقسى عوامل الطرد، التي تدفع الشباب دفعا إلى الهجرة، وتبدو الظاهرة في ازدياد خلال الأعوام الماضية، وإن كان أخطر أنواعها شيوعا، هو تلك الهجرة غير الشرعية، بما تمثله من خطر على حياة الشباب الذي يقدم عليها، إذ لا يكاد يمر شهر دون ورود أخبار عن غرق مجموعات من الشباب، فيما بات يعرف بقوارب الموت، وهي في طريقها بحرا، إلى سواحل أوروبا.

وبعيدا عن الأسباب السياسية، التي يجري الحديث عنها، فإننا معنيون هنا، بالتساؤل عن الدافع القوي الذي دفع بشباب تونس إلى المخاطرة بحياته في ظروف قاسية من أجل حلم الهجرة.

وعي العائلة ودور الإعلام

الحقيقة  أن العمل على الحد من ظاهرة الهجرة غير الشرعية يتطلب تغييرا في السياسات الحالية، وتوفر الإرادة السياسية والرؤية الواضحة، وأن المقاربة الأمنية وحدها ليست الحل، وأنه هناك رهان على وعي العائلة، ودور الإعلام، وكذلك المدرسة التي غاب عن برامجها موضوع الهجرة، هذا بالإضافة إلى وجوب فهم مشكلة الهجرة بأبعادها المختلفة، وعدم الخلط بين الهجرة والإرهاب، فالمهاجر غير النظامي إنسان وليس مجرما، والتفريق بين الصفتين واجب.

وفي السياق ذاته، تتقاطع المبادرات السياسية مع أهداف الفنون من أجل التوعية بمخاطر هذه الظاهرة. ومن بين هذه المبادرات الجديدة مسلسل”الحرقة” الذي تم عرضه على القناة الوطنية التونسية الأولى، حيث تكاثفت في هذا المسلسل الصور الموجعة التي تصور هلع الموت والضياع وكل عواطف معاناة الآباء ولوعة الأمهات من جراء هذه الظاهرة، ولعل تلك الصور تجد صداها في نفوس الشباب التائق للهجرة.

والحقيقة أن معظم أخبار المهاجرين التونسيين غير النظاميين وقصصهم من الذين يعيشون في أحواز المدن والأحياء الفقيرة مؤلمة ومحزنة، فبعض الذين وصلوا إلى إيطاليا ينحدرون من أحياء فقيرة مثل حي الانطلاقة وحي التضامن والكبارية والملاسين وحي التضامن والزهروني وغيرها… في هذه الأماكن يشعر الأهالي بالحسرة على وضعهم، هم غاضبون من النخبة الحاكمة وملّوا قصص الهجرة المؤلمة، وأصبحوا عاجزين عن كبح جماح الرغبة المغامرة والجنونية التي تحرّك أبناءهم.

الإحباط والهواجس

نحن نعلم أن كل إنسان يرفض الذل والهوان، وقلبه معلق بوطنه، يرفض نسيانه أو استبداله حتى لو أُجبر على مغادرته، وكلنا يدرك أنه إذا فقد الأمل في المستقبل، تتساوى عند المسائل، وإذا طالت مدة البطالة، وما تعنيه هذه الكلمة من معنى، فإن كل الأفكار سترد على ذهن الشاب، أفكار سوداء وغير مدروسة، وضبابية تجعله بعيش حالة من الإحباط تدفعه إلى اختيار الطرق السهلة، حسب رأيه، وهي الخروج من وضعيته، وذلك بالهجرة إلى الخارج الذي يراه ملاذه الآمن ومستقبله الوردي، وفي هذا السياق، يستحضرنا قول الشاعر الأندلسي أبو البقاء الرندي “فجائع الدهر أنواع منوعة… وللزمان مسرات وأحزانُ”، فالشاب يختار طريق “الحرقة” بعد أن يئس من مستقبله وذاق من نوائب الدهر الكثير حتى انسدت أمامه السبل، وأصبح أسير حلم “الحرقة” رغم مخاطره التي مافتئ الإعلام يركز عليها متناسيا الدوافع والأسباب التي جعلت من شباب تونس يختارون مسالك الموت، وحين تسأل الشاب عن اختياره يجيبك “آش لازك على المرّ كان اللي أمرّ منه”، هذه الإجابة فيها من المعاني الشيء الكثير، وفيها من العبر ما يعجز اللسان عن قوله.

العذاب الأكبر

الغربة عن الوطن هو العذاب الأكبر في الدنيا والذي من الممكن أن يعاني منه كل شخص ترك وطنه وغادر منه من أجل أسباب مختلفة منها ما يترك بلده ووطنه من أجل البحث عن لقمة العيش ومنهم من يترك وطنه ليهرب من واقع مؤلم أو ظلم معين، ولكن في جميع الأحوال فإن الغربة لها تأثير سلبي على الإنسان.

والحقيقة أن أسباب الهجرة لدى الإنسان متعددة، فقديما كان يتم طرد المواطن من بلده ونفيه إلى بلد أخرى بسبب المعارضات السياسية من أجل الدفاع عن الوطن، ومن الممكن أن يهرب الشخص نفسه من وطنه من أجل ظلم أو ضيق الحال الذي يتعرض له في وطنه وتتعدد الأسباب وتظل الهجرة والغربة شعور يخنق الإنسان.

أرقام مفزعة

لم تمر حوادث غرق الزوارق السرية مرور الكرام، إذ ملأت صور الجثث القنوات التلفزية، وتحركت وسائل التواصل الاجتماعي، “كالعادة” للتنديد بهذه الظاهرة متناسية المسببات والدوافع التي تجعل من الإنسان يرمي بنفسه في البحر هربا من واقع مظلم ومصير مجهول، والتي خلفت العشرات من الغرقى والمئات من المفقودين وبمناسبة زيارة وزير الخارجية الإيطالي لويجي دي مايو، نظمت منظمات غير حكومية تونسية عدة مؤتمرا صحافيا للمطالبة بكشف حقيقة مصرع المهاجر التونسي وسام بن عبد اللطيف (26 عاما) الذي وصل إلى صقلية مطلع أكتوبر وتوفي في مستشفى سان كاميلو في روما في نوفمبر بعد احتجازه في مركز ترحيل إيطالي.

وقال دي مايو إن إيطاليا أبرمت اتفاقيات مع تونس بشأن عمليات الإعادة سيتم مناقشتها في زيارة قريبة إلى تونس حيث سيطلب عقد اجتماع لمجموعة العمل الإيطالية التونسية، بهدف المصادقة على زيادة وتسريع عمليات الإعادة  للمهاجرين غير النظاميين إلى تونس.

وفي هذا السياق، انتقد المتحدث باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية رمضان بن عمر ظروف الإقامة في مراكز المهاجرين التي “لا تحترم كرامة الإنسان ولا الشروط الصحية لاسيما في زمن جائحة كورونا”.

واعتبر بن عمر أن تونس “تحولت إلى حارس حدود” لأوروبا، وقد منعت عام 2021 أكثر من 26 ألف مهاجر من بلوغ السواحل الإيطالية. بدوره، قال عضو منظمة محامون بلا حدود أحمد مسدّي إن “السلطات الإيطالية تجبر المهاجرين في هذه المراكز على توقيع وثائق لا يفهمونها”.

وتعتبر إيطاليا إحدى نقاط الدخول الرئيسية إلى أوروبا للمهاجرين من شمال إفريقيا، وخصوصا من تونس وليبيا، مع ارتفاع عدد المغادرين بشكل حاد مقارنة بالسنوات السابقة، وصل نحو 55 ألف مهاجر إلى إيطاليا بين مطلع العام وبداية نوفمبر، مقابل أقل من 30 ألفا في عام 2020، وفق بيانات إيطالية رسمية. وبحسب العديد من المصادر، فإن أكثر من 70 في المائة من المهاجرين غير الشرعيين الذين يغادرون من تونس هم تونسيون.

مشكلة خطيرة

تظل مسألة المهاجرين غير النظاميين من تونس عبئا ومشكلة خطيرة بالنسبة لتونس والدول الأوروبية، ورغم الجهود المبذولة للسلطات للحد من آثار الهجرة غير النظامية، فإن الوضع ازداد سوءا، بزيادة عدد المهاجرين التونسيين ومن جنسيات أخرى وصلوا إلى إيطاليا، مما حدا بالوفد الإيطالي الأوروبي إلى عقد محادثات باستمرار مع المسؤولين التونسيين.

وكان آخر لقاء بين الرئيس قيس سعيد ورئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال في قصر قرطاج، حيث جدد الرئيس التونسي بالمناسبة الدعوة إلى مقاربة متكاملة بشأن قضية الهجرة، تتعدى المقاربة الأمنية لمواجهة الأسباب العميقة للمشكلة، أي الفقر والبطالة.

وتعود الحاجة الملحة لهذه المحادثات إلى عدد المهاجرين الذين يصلون إلى السواحل الإيطالية “عبر المسالك والخرائط المعهودة للهجرة غير النظامية”.

فوفقا للإحصائيات التي كشف عنها مؤخرا التقرير السنوي، حول الهجرة غير النظامية لعام 2020 للمنتدى التونسي للحقوق الاجتماعية والاقتصادية في تونس، ارتفع عدد المهاجرين غير النظاميين، حيث تجاوزت الإحصائيات 12700 مهاجرا، في حين تشير إحصائيات وزارة الداخلية التونسية إلى 8696 مهاجرا. وكما أشار التقرير “هناك إشكالية حول إحصائيات الهجرة غير النظامية” المتضاربة.

ورغم الجهود المبذولة للحد من ظاهرة الهجرة السرية، فإنالأسئلة تبقى مطروحة في هذا الموضوع، فمن الذي يستقبل المهاجرين في الشمال عندما يتجهون إلى الحقول أو إلى بعض المصانع، ويعملون فيما يسمى بالعمل الأسود أو اللاورقي؟ ومن يستغلهم ومن يستفيد منه؟ وهنا أيضاً لا بد من محاربة الشبكات التي تتاجر بالبشر داخل أوروبا، ويبدو أن المهاجرين الذين يصلون بشكل غير قانوني إلى أوروبا من تونس أو شمال إفريقيا يتم تشجيعهم من قبل الشبكات في أوروبا، التي تستغلهم وتنتهك حقوقهم الأساسية.

Please follow and like us:
Pin Share

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *